ينذر الذكاء الاصطناعي بإعادة تشكيل الأنظمة القديمة وإعادة التفكير.
Menu
كان اختراع العجلة والمطبعة والإنترنت كالسيل الجارف الذي اجتاح العالم وأعاد تشكيل تفاعلات البشر مع بعضهم بعضًا ومع العالم، وهذه التغيرات شملت الإسلام مثل كل شيء آخر. تصطدم كل تقنية جديدة في بداية ظهورها بالعالم كموجة هادرة تدفعه نحو التقارب. وزيادة التواصل والتفاعل بين البشر ألهم ظهور نظريات وأنظمة جديدة ومعقدة: في الشرائع والأخلاق وفهم الذات الإلهية. لكن كل تلك التقنيات تبدو الآن كالبرك المائية الهادئة إذا ما قارنّاها بالانتشار المفاجئ للذكاء الاصطناعي. ينذر الذكاء الاصطناعي -كالاختراعات السابقة- بإعادة تشكيل الأنظمة القديمة وإعادة التفكير في النظريات القديمة. نحن نهدف إلى استكشاف هذه التحولات المحتملة فيما يتعلق بالإسلام والشريعة الإسلامية، حيث إن كليهما مرتبط بالذكاء الاصطناعي بصورة ما. وبهذا المسعى ننضم إلى العديد من العلماء والمحامين والزعماء الدينيين والحكومات والشركات ومراكز الفكر والمهندسين وغيرهم الذين يعكفون على دراسة آفاق الذكاء الاصطناعي وتحدياته – وبالأخص فيما يتعلق بالإسلام في القرن الحادي والعشرين.
اجتمعنا مع ستة باحثين يفكرون ويكتبون في قضايا الذكاء الاصطناعي والشريعة الإسلامية لمعالجة الأسئلة الأكثر إلحاحًا التي نشهدها في مستهل ثورة الذكاء الاصطناعي، وللتفكير فيما إذا كان الذكاء الاصطناعي -بوضعه الحالي- سيؤثر على دراسة الشريعة الإسلامية وتطبيقها، وإلى أي مدى سيبلغ هذا التأثير. هذا وبالنظر إلى الوضع الراهن للتكنولوجيا والوعود التي تبشّر بها إلى جانب الآفات التي تنذر بها، فما هي التوجهات والمسارات المتوقعة المتعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي بين أولئك المهتمين بالمصادر الإسلامية؟
الإجابة حتى الآن: يبدو أنها محدودة. لا سيما وأن كبرى المنصات الرائدة التي تقود موجة الذكاء الاصطناعي لم ينشئها مهندسون ذوو معرفة عميقة بالإسلام أو اللغة العربية، ولم تصَمم خصيصًا من أجلهم. إن منصات الدردشة والبحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي التي نألفها في بيوتنا، وفي المؤسسات الأكاديمية، وفي اجتماعات الحكومات والشركات محدودة للغاية، وهي: ChatGPT من شركة OpenAI، وClaude من شركة Anthropic، وCopilot من شركة Microsoft، وGemini من شركة Google، وGrok من شركة إيلون ماسك xAI ، وPerplexityمن شركة Srinivas، والآن DeepSeek من الصين. عندما يسأل المستخدمون منصات الذكاء الاصطناعي هذه أسئلة متعلقة بالشريعة الإسلامية والقانون المقارن دون تعليمات دقيقة ومنظمة -كما فعلنا- فالإجابات الواردة إما أن تكون قاصرة مخلّة أو مفرطة في الشمولية بشكل خيالي. يتجلّى هذا القصور عندما تتجاهل الإجابات العالمَ الإسلامي تمامًا، كإجابة أسئلة متعلقة بالقانون المقارن بالإشارة إلى تشريعات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والدول الأوروبية والصين وأمريكا اللاتينية: تقريبًا كل نظام قانوني باستثناء الشريعة الإسلامية، رغم أن 20% من سكان العالم يطبقونها (1.6 مليار إنسان تقريبًا) وعلى مدار أكثر من 1400 عام (مع اعتبار عام 622 م. بداية ظهور الإسلام). أما وجه إفراط منصات الذكاء الاصطناعي في الشمولية فيظهر عندما يُطلب منها الإجابة بالتركيز على الإسلام أو الشريعة الإسلامية، حيث تجيب عادة بتعميمات وهلوسات (توليد معلومات مغلوطة) وانعدام دقة تتعارض مع الاحتياجات المتخصصة للباحث أو حتى الأسئلة الأبسط التي يطرحها المستخدم العادي.
الباحث على سبيل المثال، سواء كان مؤرخًا أو عالمًا دينيًا أو خبيرًا قانونيًا يعمل في محكمة أو وكالة حكومية، يحتاج نتائج موثوقة ودقيقة، خاصة إن كان عليه أن يجيب أسئلة عن التشريع أو الأخلاق أو فهم الذات الإلهية (والدين بصورة أعم). قد يكون المستخدم العادي مسلمًا يسعى لطلب العلم، وهو كذلك يحتاج نتائج موثوقة ودقيقة، خاصة إن كان يطرح أسئلة عن التشريع أو الأخلاق او فهم الذات الإلهية. (مما يجدر الإشارة له أنه لا يلزم أن يكون المرء مسلمًا أو “مؤمنًا” حتى يرى ضرورة الموثوقية والدقة، فأي مؤرخ أو محامٍ أو باحث لديه اهتمام بالعالم الإسلامي أو التاريخ العالمي أو النظريات القانونية المتينة يحتاج إلى الوصول إلى مصادر موثوقة ودقيقة عن الشريعة -ربما أكثر من شخص مسلم يمارس نمطًا معينًا من الإسلام دون وعي- وذلك لاكتساب فهم أعمق للتفسيرات والدوافع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها لدين لديه حضور بارز في قضايا القانون والمجتمع الكبرى سواء في الحاضر أو الماضي).
الأمر في غاية الخطورة، ومع ذلك فالتكنولوجيا بوضعها الحالي ما زالت قاصرة لا تفي بالغرض. إن نظرنا إلى الكتاب على أنه المستودع الأصلي لمعارف العالم القديم وأفكاره، فسنجد فجوة هائلة بين ما في الكتب مقابل ما هو متاح عبر الإنترنت من خلال منصات الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بالإسلام والشريعة. وهذا ليس استنتاجًا مفاجئًا خاصة بالنظر إلى الرؤى والمبادئ الأخلاقية والسياسية لأصحاب رؤوس المال والمهندسين الذين استهلّوا هذا العصر الجديد. وليس مفاجئًا أيضًا بالنظر إلى اهتمامات قادة الفكر والمؤسسات الرئيسية التي طورت ورقمنت وحددت الأفكار التي ستُتاح عبر الإنترنت بحيث حتى تكون جاهزة لاستخدام الذكاء الاصطناعي. أما النصوص الإسلامية العريقة الضرورية لإثراء البحث حول الشريعة الإسلامية فلا يبدو أنها أولوية للشركات التي تسعى لتحقيق الربح. وهذا أمر مفهوم.
كيف نفهم إذًا العلاقة بين هذين المصدرين للمعرفة “الكتاب والذكاء الاصطناعي”؟نحن لا نرى أن وضع الكتاب والذكاء الاصطناعي يتطابق مع حالة “الجمل والعجلة”، والتي تشير إلى ظاهرة غريبة حيث رفضت مجتمعات بلاد ما بين النهرين على مدار قرون استخدام تقنية العجلة الأحدث والأسرع لصالح الجمل. دُرست هذه الظاهرة في كتاب شهير يحمل العنوان نفسه “الجمل والعجلة” من تأليف ريتشارد بوليت، وهو أستاذ فخري ومؤرخ إسلامي بجامعة كولومبيا. ناقش بوليت في الكتاب تطور العجلة بين عامَي 3000 و2500 ق.م. وكيف قدمت وسيلة نقل متفوقة على كل ما سبقها. لكن في وقت ما بين عامي 500 و100 ق.م. طوّر سكان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سروجًا جعلت الجمل وسيلة نقل أفضل بالنسبة لاحتياجاتهم وملائمة للتضاريس التي يعيشون فيها. قد نقول إن الجمل كان “واعيًا بالسياق”، وكذلك الكتاب. أما تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي فليست واعية بالسياق فيما يتعلق بالدراسات الإسلامية أو الشريعة الإسلامية أو النصوص العربية.
هل هذا يعني أن أولئك المهتمين بدراسة الإسلام سيفضّلون الكتاب على الذكاء الاصطناعي كما فضّل سكان الشرق الأوسط الجمل على العجلة في الماضي؟ ليس بالضرورة. لا نتوقع أن ينبذ الباحثون الذكاء الاصطناعي بالجملة أو دائمًا لصالح الكتب التقليدية، كما اختارت تلك المجتمعات القديمة الجمال على العجل. لكن حتى نتجنب هذا المصير سيلزم تكييف الذكاء الاصطناعي لفتح آفاق الكتب الإسلامية، أي على أقل تقدير تحديد النصوص الإسلامية والعربية الأصيلة ورقمنتها، وتحويلها إلى صيغ يمكن للنماذج اللغوية الكبرى (LLMs) استهلاكها عبر الإنترنت، وتنظيم تلك النماذج وضبطها لجعل استهلاك الذكاء الاصطناعي وإنتاجه مراعيًا للسياق وذا فائدة. باختصار، إن كان للذكاء الاصطناعي أن يقدم للعالم قاعدة معرفية عالمية جديدة حقًا بحيث تكون مُجدية ومفيدة وشاملة في بنيتها الأساسية، فإنه في أمس الحاجة للتكيف مع النصوص والسياقات الإسلامية.
ينذر الذكاء الاصطناعي بإعادة تشكيل الأنظمة القديمة وإعادة التفكير.
يهدف عمر في هذا الكتاب إلى دراسة الخضر من إطار أوسع.
كتاب معاصر يستعرض التطورات الحديثة التي يشهدها العالم الإسلامي فيما يتعلق بالقرآن.