الطبيعيُّ في نَشَاءَةِ العلوم أن تبتدئَ كُتُبُهَا مختصرَةً فمتوسِّطَةً فمُطَوَّلة، ثم يعود الناسُ للاختصار.
عثمان بن عبدالله العمودي
باحث في الفقه الإسلامي
- 16/09/2022
عدد المشاهدات 46
– ننشر هذه المقالة ضمن برامج مبادرة إرث المتخصصة في تاريخ العلوم التراثية –
عرض كتاب (معالم منهج البحث الفقهي عند الإمام ابن دقيق العيد من خلال مقدمة كتابه «شرح الجامع بين الأمهات») للدكتور عادل بن عبد القادر قوته.
من مسالك التصنيف المشهورة في تراثنا الإسلامي: لفتُ النظر إلى مقدمة كتابٍ ما، وتسليطُ الضوء عليها، وإفرادُها بالتعليق أو الشرح أو الاختصار أو الاستنباط.
ففي علم الاعتقاد استُلَّت مقدمة ابن أبي زيد لـ«الرسالة»، وفي علم التفسير انتُخبِت مقدِّمة ابن عطية لـ«المحرر الوجيز»، وفي علم الحديث شُرِحت مقدِّمة الإمام مسلم لـ«صحيحه»، وفي علم الفقه اعتُني بمقدِّمة المرداوي لـ«الإنصاف»، وفي علم الأصول صُدِّرت مقدِّمة القرافي للـ«الذخيرة»، وأقبلوا كذلك على مقدِّمة سيبويه للـ«الكتاب»، ومقدِّمة ابن خلدون لـ«تاريخه» وغيرها من المقدِّمات.
ولم يختصَّ المتقدِّمون بهذا الاعتناء، بل ما زال يربو عجينُه إلى اليوم، فقد صنَّف العلامة الطاهر بن عاشور «شرح مقدِّمة الحماسة للمرزوقي»، وعلَّق الشيخُ ابن عثيمين على «مقدِّمة المجموع للنووي»، وظهرت عناية الشيخ عبد الكريم الخضير بـ«مقدمات كتب السنة»، وبرز اهتمامُ الشيخ مساعد الطيار بـ«مقدِّمات كتب التفسير»، وما زال هذا صنيع كثير من أهل العلم والفضل غيرهم.
ومن هذه العناية بالمقدِّمات في عصرنا ما استقامَ لقلمِ الدكتور عادل قوته[1] في كتابٍ سمَّاه: (معالم منهج البحث الفقهي عند الإمام ابن دقيق العيد من خلال مقدمة كتابه «شرح الجامع بين الأمهات»)، وقد صدر في نشرته الأولى عن (مركز نماء للبحوث والدراسات) عام 1435هـ، في نحو (250) صفحة من القطع الصغير.
غير أنَّ هذا الكتاب -كما هو بادٍ من عنوانه- لم يسلك مسلكَ الشرح والتعليق على المقدمة المذكورة، ولا قصد به مؤلفهُ الوقوفَ مع كل معانيها، ولم يُرِد الالتفاتَ إلى جُملة مقاصدها، بل أراد أن يلتمس قضية (منهج البحث الفقهي) من خلال المقدِّمة المذكورة، فأبرز معالمَ تلك القضية من كلام الإمام ابن دقيق العيد، وخلص إلى تقريراتٍ في (منهج البحث الفقهي) التقطها من ثنايا مقدِّمة الكتاب، والمؤلف يرى أن مقدِّمة الإمام ابن دقيق العيد لشرح «جامع الأمهات»: (مقدِّمةٌ رفيعة نادرة، وهي منهجيةٌ مؤصَّلة ومؤصِّلة، كُتِبَت بيدٍ باسطةٍ من العلم، وقلمٍ سيَّالٍ من البيان، وذهنٍ ماطرٍ من العقل العلميِّ الجوَّال، وفكرٍ حاضرٍ من المنهجيَّة الصارمة)[2].
ومن اللطيف أنَّ هذه المقدِّمة التي اختصَّ الكتابُ بها، أعني مقدِّمة الإمام ابن دقيق العيد لـ«شرح الجامع بين الأمهات»، هي مقدِّمةٌ لكتاب مفقود لم يصلنا منه شيء!
وأما عن طريقة وقوف الدكتور عليها فذلك أنَّ ابن السبكي أودع في «طبقاته» المقدِّمة كاملةً[3]؛ استحساناً لها، وتفخيماً لشأنها، وتنبيهاً على فضلها، وقد جرَت عادةُ ابن السبكي بإيرادِ شيءٍ من شِعر المترجَم له ونثرِه إذا كان مشهورا، فذكَر مقدِّمة ابن دقيق العيد لمَّا تعرَّض لذكر جودة نثرِه وحُسن بيانه، فالتقطها الدكتور لكتابه هذا[4].
وكان من حسَن ما صنعه الدكتور أنه لم يتلقَّف المقدِّمة من كتاب «طبقات الشافعية» تلقُّفَ الناسخ الناقل، ولكنَّه وقَف منها موقفَ المحرِّر الحاذق، فأصلح الأخطاء الطباعية، وشرَح المفردات الغريبة، وشكَل الألفاظ المُلبِسة، وأوضح الإشارات الخفيَّة.
وإذا كان الدكتور أثنى على بيانِ ابن دقيق العيد ولغته؛ فالدكتور عادل حقيقٌ بثناءٍ مثله كذلك، ومن تصفَّح الكتاب ظهر له هذا جليَّا، فقلمُه رشيقُ الأسلوب، وعبارته بديعةُ الاختيار، ومفرداته لطيفةُ الدلالة.
وأمَّا تفصيل وضع الكتاب؛ فقد جاء كتابنا في: مقدمة، فتوطئة، ثم ثلاثة مقاصد، ثم عرض للنتائج المستخلصة بعد ذلك، وهذا بيان أجزائه:
بدأ الدكتور بمقدِّمةٍ بثَّ فيها أشجانَ الواقع العلمي فيما يتصل بـ(الأبحاث الفقهية)، واشتكى فساد الساحة -إلا من رحم الله- وامتلاءها بالسطحية والخطابية وانعدام التأصيل، وجعل من أسباب ذلك (فقدان المنهجيَّة الواضحة الصحيحة)، فأراد أن يقف مع بيان منهج النظر الفقهي الصحيح من خلال مقدمة الإمام ابن دقيق العيد لكتابه «شرح الجامع بين الأمهات».
ثم شرع في توطئةٍ لكتابه، وجعلها على ثلاثة فروع:
ثمَّ عرض الدكتورُ المعالمَ الخمسة عشر التي استنطق المقدمةَ بها على وجه الإيجاز، وذكر منهجَ كتابِه مفصَّلا.
ولم ينتهج الدكتور في هذا منهجَ النقل من كتب التراجم والعزو إليها دون تمحيصٍ وتثبُّت، بل حقَّق بعض المسائل تحقيقاً صالحا، وانظر -مثلاً- لمَّا قرَّر أن ابن دقيق العيد لم يكمل شرحَه، وعزا ذلك عن جماعةٍ من العلماء؛ فأراد تحريرَ موضع وقوف الإمام في شرحه، ونقل ذلك عن علماء المذهب أنفسهم، فمنهم من قال: بلغ كتاب الحج، ومنهم من قال: بلغ كتاب الصلاة، ثم قال الدكتور بعد سياق ذلك: (ولم أقف -على بحثي وجهدي- على أيِّ خبرٍ عن قطعةٍ أو جزءٍ من هذا الكتاب قد وصلَت إلينا ضمنَ ما فاتشتُه من فهارس المخطوطات)[5]! وهذا طرَفٌ من أمانة العلم واستقامةِ منهج البحث.
خصَّ الدكتور هذا المقصد بعرضِ مقدِّمة ابن دقيق العيد محضةً، وهي المقدِّمة المقصودة بالبحث، والتزَم في ذلك تصحيحَ ألفاظها، وبيانَ إعرابها، وشرح غريبها، وعرضَ إشاراتها، فأجاد في ذلك وأفاد.
وهذا المقصد زبدة الكتاب، وخُلاصة البحث، ومطلوبُ الحديث، وقد استخرج فيه الدكتور خمسة عشر معلماً من معالم منهج البحث الفقهي، ونشَر ثوبَها من كلام الإمام ابن دقيق العيد، وربَّما اعتمد القارئُ على اسم الكتاب، فظنَّ أن الدكتور إنَّما استلَّ هذه المعالمَ من مقدِّمة الإمام ابن دقيق العيد وحدها، وليس كذلك، بل جعل الدكتورُ كلامَ ابن دقيق العيد كالبوصلة التي تحدِّد المعالم، ثمَّ أدار عليها كلامَ ابن دقيق العيد في كلِّ ما تحصَّل له من كتبه، ولَعمري ليس هذا بالهيِّن!
ويصف الدكتور عملَه في تلك المعالم فيقول: (غير أنني تتبعتُ من كلام هذا الإمام ما طالَته يدي أغواره وأنجاده، وجمعتُ منتشرَه، وأثرتُ مكتمنَه، وحللتُ معقودَه، ومددتُ مقصورَه، وقطفتُ من أزهاره، وسبكتُ من نُضاره، واخترتُ منها عيون العيون، وعرضتُ ذلك منها في معرضٍ جديد، وأقمتُها -إن شاء الله- في مذهبين حادثٍ وتليد)[6].
فهو ينقل حيناً عن الإمام ابن دقيق العيد من «الإلمام»، ويقف حيناً مع نصوصه في «إحكام الإحكام»، ويحيل تارةً على «تحفة اللبيب» أو ترجمته في «الطبقات»، ويربط مرةً بين كلامه في رسائله المتفرقات، كلُّ ذلك بلطف صنعةٍ وحُسن تخلُّص.
ومع هذا فليست تخفى حُرقة الدكتور على ما آل إليه واقع البحث العلمي، وربَّما زفر زفرةً وهو يكتب فخرجَت منه تلك الزفرةُ على صورة سطرين محبَّرين، وكأنَّما ورث ذلك عن شيخه الدكتور الأصولي عبد الوهاب أبو سليمان الذي ما فتئ قلمُه يسعى في إصلاح مناهج البحوث الشرعيَّة.
وهذا عِداد المعالم الخمسة عشر التي وقف معها الدكتور عادل في كتابه الذي بين أيدينا:
هذا، ثم ختم الدكتور كتابَه بعد ذلك بعرضٍ لأهم النتائج المستخلصة من البحث، تاركاً هذا الكتابَ مثالاً رائعاً للكتابة العلميَّة الجادة، ودليلاً ساطعاً على المنهج البحثيِّ المنضبط، فجزاه الله خيرا.
_________________________
[1] هو الدكتور عادل بن عبد القادر قوته، حفظه الله، أستاذ الفقه وأصوله في جامعة الملك عبد العزيز بجدة سابقا، وعضو خبير بالمجمعين الفقهيين: مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وتولى غير هذه المهام. من مؤلفاته المطبوعة: (العرف، حجيته وأثره في فقه المعاملات عند الحنابلة)، (القواعد والضوابط الفقهية القرافية)، وغير هذين.
[2] معالم منهج البحث الفقهي عند الإمام ابن دقيق العيد من خلال مقدمة كتابه «شرح الجامع بين الأمهات» (30-31). وسأرمز له بعد ذلك بقولي (المعالم) اختصارا.
[3] طبقات الشافعية الكبرى (9/231).
[4] وقد تناولت بعضُ الدراسات المعاصرة هذه المقدمة، منها: (مقدمة شرح ابن دقيق المفقود على مختصر ابن الحاجب الفقهي) للدكتور فؤاد الهاشمي عام (1430)ه، وكذلك بحث (الاستدراك الفقهي تطبيقاً وتأصيلا) للباحثة مجمول الجدعاني عام (1433)ه، وكلاهما منشور على الشبكة.
[5] المعالم (117-118).
[6] المعالم (266).
الطبيعيُّ في نَشَاءَةِ العلوم أن تبتدئَ كُتُبُهَا مختصرَةً فمتوسِّطَةً فمُطَوَّلة، ثم يعود الناسُ للاختصار.
غَيْرُ مَخْبُوءٍ عَن ذِهْنِ النَّبيهِ أن فَسادَ تأويل ألقابِ العلوم بابُ اختلالِ النظرِ فيها.
إنَّ من الأمور الطريفة التي لا ينبغي أن تمرَّ على قارئها إلا وتستحثُّه.