كتاب معاصر يستعرض التطورات الحديثة التي يشهدها العالم الإسلامي فيما يتعلق بالقرآن.
وليد صالح
ترجمة: يارا عمار
- 24/04/2025
عدد المشاهدات 7
“القرآن: التأويلات الإسلامية الحديثة“، كتاب معاصر يستعرض التطورات الحديثة التي يشهدها العالم الإسلامي فيما يتعلق بالقرآن. يبدأ المؤلف ماسيمو كامبانيني كتابه برؤية عميقة، وهي إعادة التوجه نحو القرآن، حتى صارت هي السمة الأكثر مركزية في الإسلام الحديث، ويقارن هذا التطور ببداية الإسلام حيث يقول “لقد شهدنا في العصر الحديث نشاطًا مكثفًا -يضاهي ما كان في العصور الوسطى- في مجال دراسة القرآن وتفسيره في العالم الإسلامي.” وأنا أتفق مع هذه الرؤية وأرى أنها تساعدنا على فهم كثير من خصائص المشهد الديني الإسلامي الحديث.
ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول، كل منها يتناول جانبًا محددًا من المناهج الحديثة لتفسير القرآن. يأتي الفصل الأول بعنوان “التفسير التقليدي” وهو يستعرض ثلاث تيارات لتفسير القرآن: السلفي، التقليدي، العلمي. يستخدم المؤلف هنا مصطلح “السلفي” للإشارة إلى الحركة الإصلاحية التي نشأت في القرن التاسع عشر والتي سعت إلى “أسلمة الحداثة” وتبنت فكرة توافق الإسلام والعقلانية. يقدم كامبانيني تحليلًا مفصلًا للتكوين الأيديولوجي لهذه الحركة وأهم قادتها، ويلخص منهجها في التعامل مع القرآن بقوله “يتمثل المنهج السلفي في بناء تصور للقرآن، أو بعبارة أخرى: اتخاذه أساسًا للفكر ومصدرًا للتعاليم اللاهوتية والأخلاقية التي تساعد المجتمعات الإسلامية على مواكبة الحداثة.” أبرز تفاسير هذا التيار هو تفسير المنار لرشيد رضا (1865-1935)، ويرى كامبانيني أن فكرة أن القرآن نص عقلاني هي المنطلق الملهم لهذا المؤلف. مما استفدته من عمل كامبانيني أنه وسّع نطاق فهمنا لهذه الحركة بتعريفنا بعبد الحميد بن باديس وتفسيره للقرآن. وقد اشتهر ابن باديس بدعوته إلى “تقديم تعلم القرآن على سائر العلوم الدينية التقليدية الأخرى”.
والتيار الثاني هو التفسير التقليدي؛ يتحدث كامبانيني في هذا القسم عن أربعة من كبار مفسري القرآن: محمد حسين الطباطبائي (1903-1983)، الطاهر بن عاشور (1879-1973)، محمود شلتوت (1893-1963)، محمد الغزالي (1916-1996). مما يجدر الإشادة به أن كامبانيني قد جمع بين علماء المذهبين السني والشيعي على قدم المساواة؛ والحجة الضمنية هي أن الانقسام الذي يفصل بين التقليدين التأويليين السني والشيعي ليس له تأثير قوي في ظل التطورات الحديثة كما كان في القرون الأولى. يسلط كامبانيني الضوء على تناقض عجيب في هذا التيار لتفسير القرآن، وهو مزجه بين المبادئ التقليدية والحديثة في آن واحد. ومما يحسب له أنه يستند في قدر كبير من تحليلاته إلى عمل أحميدة النيفر الذي لخص خصائص هذين المذهبين (السلفي والتقليدي) في دراسته حول المناهج الحديثة لتفسير القرآن. ما أعجبني في اعتماده على النيفر هو المسار المعقد الذي خاضه للاستفادة العلمية من عمل عربي لم يحظ باهتمام كاف قبل ترجمته إلى اللغة الإنجليزية. كتب النيفر دراسته باللغة العربية، وقد ترجمت إلى اللغة الفرنسية عام 1988 بفضل جهود المعهد البابوي للدراسات العربية. من المؤسف أن الأعمال العلمية العربية المتعلقة بالقرآن (وكثير من المجالات الأخرى) تُنتقى عشوائيًا في الأوساط العلمية الأوروبية والأمريكية الشمالية، نحن نفتقر إلى أي متابعة أو ارتباط علمي منهجي بالأعمال التي تُنشر في العالم الإسلامي. يعد عمل النيفر دراسة من الدرجة الأولى في التفسير الحديث ومنزلة القرآن في العالم العربي، وقرار المعهد البابوي بترجمته مؤشر على بصيرة المؤسسات المسيحية الأوروبية التي تدرس الإسلام ورؤاها العميقة -وفي مجال التفسير لدينا الشخصية البارزة كلود جيليو. ومع ذلك، وباستثناء أمثلة قليلة، فالمؤلفات الثانوية العربية في التفسير ليس لها تأثير يذكر على النقاشات العلمية باللغات الأوروبية- ويُعد كامبانيني حالة استثنائية بارزة. وإن أضفنا إلى ذلك الإنتاج العلمي في الجامعات التركية -لا سيما رسائل الدكتوراه في أقسام الإلهيات- ندرك حجم الانفصال والفجوة الهائلة بين مختلف الأوساط العلمية. وبغض النظر عن القيمة الذاتية في عمل الأستاذ كامبانيني، أرى أن اعتماده الشديد على الأعمال العلمية العربية حول القرآن والتفسير هو أهم جانب في عمله، نظرًا لأنه يُثري فهمنا للإسلام الحديث من خلال الصقل المستمر لتعاوناتنا العلمية الجماعية.
أما التيار الأخير الذي نوقش في الفصل الأول فهو تقليد التفسير “العلمي”. وهنا يستعرض الأستاذ كامبانيني الشخصيات الرئيسية في هذا الاتجاه، وكذلك معارضيهم في العالم الإسلامي، ما يجعل هذا القسم مادة ماتعة في القراءة ونافذة على تعقيد مكانة سلطة النص الديني في عصر العلوم.
والفصل الثاني المعنون “القرآن بوصفه نصًا وخطابًا وبنية” عبارة عن استعراض شامل للمناهج المعاصرة -أعني المناهج الحداثية لتفسير القرآن- بدءً من الأدبية ووصولًا إلى الفلسفية. هذا أكثر فصول الكتاب تشويقًا، وهو يغطي عددًا كبيرًا من العلماء والأعمال التي تجعله مرجعًا لدراسة القرآن في العصر الحديث. فبالإضافة إلى خلف الله (1916-1998) والخولي وبنت الشاطئ (ت. 1999)، يناقش كامبانيني أيضًا أعمال أركون ونصر حامد أبو زيد. هذه هي الأسماء المألوفة التي يتوقع أن يجدها المرء في مثل هذا الفصل، ومع ذلك يضيف إليهم كامبانيني عبد الله سعيد الأستاذ في جامعة ملبورن الذي يوظف رؤى غادامير في علم التأويل، وكذلك مالك بن نبي ومحمد طالبي.
ولم يكتفِ بهؤلاء الباحثين فحسب، بل استعرض في هذا الفصل أيضًا أعمال العالم الإيراني محمد مجتهد شبستاري، والسوداني محمد محمود طه، والمصري حسن حنفي، والباكستاني الأمريكي فضل الرحمن، وأخيرًا الأستاذ المصري البريطاني محمد عبد الحليم أستاذ الدراسات الإسلامية في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية، ومؤسس المجلة الأكاديمية الرائدة عالميًا (مجلة الدراسات القرآنية). وسعيًا منه لزيادة الإيضاح ناقش أيضًا أعمال أمين أحسن إصلاحي (1907-1997) والكاتب السوري محمد شحرور. هذا الفصل بلا شك من أوسع الدراسات الاستقصائية للباحثين المسلمين المعاصرين الذين كتبوا عن القرآن، وهو بمفرده يضم قدرًا وفيرًا من المواد التي يمكن تطويرها إلى دراسات موسّعة. يعد تحليل كامبانيني الموجز مقدمة قيمة للتعريف بهؤلاء الباحثين، وبذلك توفر باللغة الإنجليزية دراسة استقصائية بالغة الأهمية لموضوع القرآن في العصر الحديث.
أما الفصل الثالث فهو أقصر فصول الكتاب وهو مخصص للتأويلات الجذرية. أؤكد مجددًا على أن ما وجدته ملهمًا في نهج كامبانيني هو اهتمامه الوثيق بالدراسات السابقة، حيث يستفيد منها ويبني على رؤاها.
يختم الكتاب بالفصل الرابع المعنون “القرآن وتأويلات التحرير”، وهو يغطي ما صار بمثابة لاهوت التحرير في الإسلام الحديث ومناهج النسوية لفهم الكتب المقدسة. يقدم هذا الفصل استعراضًا سريعًا لهذا الاتجاه بدءً بالمنظّرين الإيرانيين، ثم يناقش كامبانيني فكر الناشط والباحث فريد إسحاق من جنوب إفريقيا، بالإضافة إلى الباحثتين النسويتين مارغوت بدران وفاطمة المرنيسي، ويختتم الفصل بعرض مفصل لفكر الباحثة المسلمة الأمريكية من أصل أفريقي أمينة ودود. وأخيرًا يحاول كامبانيني أن يقدم نظرة موجزة على الوضع في إندونيسيا وتركيا في ملحق بنهاية الكتاب.
إن هذا الكتاب استعراض مدهش لموضوع القرآن وتفسيره في العصر الحديث. ورغم أن حجمه لا يتعدى 150 صفحة، فإنه زاخر بالتفاصيل والمؤلفين الذي يسلط الضوء عليهم. الأمر الوحيد الذي يؤخذ عليه هو عدم إدراج قائمة مراجع في نهاية الكتاب لتسهيل الرجوع إلى تلك الأعمال، لكن هذه شكوى بسيطة، فعمل الأستاذ كامبانيني يستحق أن ينتشر انتشارًا واسعًا بين القرّاء، وظهوره باللغة الإنجليزية إضافة ثرية لفهمنا للقرآن في العصر الحديث.
كتاب معاصر يستعرض التطورات الحديثة التي يشهدها العالم الإسلامي فيما يتعلق بالقرآن.
الطبيعيُّ في نَشَاءَةِ العلوم أن تبتدئَ كُتُبُهَا مختصرَةً فمتوسِّطَةً فمُطَوَّلة، ثم يعود الناسُ للاختصار.
غَيْرُ مَخْبُوءٍ عَن ذِهْنِ النَّبيهِ أن فَسادَ تأويل ألقابِ العلوم بابُ اختلالِ النظرِ فيها.